أزمة الإنسان والكتاب
نشرت في ديسمبر 21, 2017 عن طريق دار عين - قسم دكتور قاسم عبده قاسمكانت الكتابة أهم اختراعات الإنسان على الإطلاق . ثم كانت الطباعة نقلة نوعية هائلة فى الأدوات المعرفية للإنسان؛ ومن هنا نشأت العلاقة بين الإنسان والكتاب وتطورت واتخذت شكلاً حميميًا لم ينشأ بين الإنسان وأى من اختراعاته الأخرى. وعلى الرغم من تطور الأدوات المعرفية ، السمعية والبصرية التى اخترعها الإنسان ، فإن الكتاب يظل صاحب الحظوة فى علاقته الخاصة بالإنسان لأنه يصحبه فى أي مكان ، ولأنه يترك لخياله مراحًا مناسبًا من ناحية أخرى . ولكن العلاقة بين الإنسان والكتاب فى العالم العربى تشهد حاليًا تراجعًا مخيفًا يوازيه تراجع مخيف فى مستوى الوعى العام وفى مستوى البناء المعرفى لدى الفرد . وهذه الدراسة تحاول رصد الظاهرة وتفسير بعض جوانبها من خلال قراءة ما جرى. ولنبدأ القصة من أولها …
كان وجود الجماعات البشرية ، ولايزال ، مرتبطًا بوجود اللغة . ولا يمكن أن نتصور طبعًا أن توجد جماعة إنسانية دون وجود لغة تربط بين أفرادها برباط من التفاهم والاتصال والتواصل . ومن البديهى أن لغات الجماعات الإنسانية الأولى كلها كانت شفاهية؛ إذ كانت تلك هى الوسيلة الوحيدة المتاحة لنقل المعلومات والمعارف والأفكار داخل الجماعة الإنسانية . ومن الأمور التى تلفت النظر فى قصة اللغة أن معظم اللغات التى تكلم بها البشر ظلت شفاهية ولم تعرف الكتابة أبدًا بل إن علماء اللغة يخبروننا أن البشر فى عالم اليوم يتحدثون حوالى ثلاثة آلاف لغة ليس من بينها سوى ما يقرب من ثمان وسبعين لغة لها أدب مكتوب . ومن ناحية أخرى، فليست هناك وسيلة متاحة، حتى الآن، يمكن أن نحصى بها اللغات التى اختفت تمامًا قبل أن تعرف الكتابة (انظر تفاصيل هذه المناقشة فى : أونج ، الشفاهية والكتابية، ترجمة حسن البنا عز الدين ، عالم المعرفة 182، سنة 1994م، ص24 وما بعدها) .
ثم عرف الإنسان الكتابة التى كانت أهم إبداعات الإنسان التكنولوجية على الإطلاق ، بيد أننا يجب أن نلاحظ أن الكتابة جاءت بعد تطورات كبيرة فى تاريخ الإنسانية المعرفى والثقافى. فقد ظل الإنسان زمنًا طويلاً يعتمد على التواصل الشفاهى من ناحية ، ثم بدأ يعتمد على الكتابة التصويرية من ناحية أخرى. وقد كانت الكتابة التصويرية تعانى من نقص إمكانيات التطور الذاتى بسبب قيامها على أساس من تصوير معانى الكلمات . ولكن أجدادنا فى المنطقة العربية تمكنوا من ابتكار الأبجدية التى وضعت رموزًا شفرية لكل الأصوات التى تشكل الكلمات التى ينطق بها البشر. وبذلك زادت إمكانيات اللغة زيادة هائلة.
هكذا، كانت الكتابة نقلة معرفية هائلة. إذ إنها جاءت بحروف نقلت الكلمة من حيز المسموع إلى حيز المرئى . والكتابة عبارة عن نظام شفرى من العلامات البصرية التى يستطيع الكاتب من خلالها أن يقدم الفكرة والمعلومات إلى قارئ يشترك معه فى فهم هذه الشفرة . ولهذا السبب أمكن للإنسان أن يتواصل مع إنسان آخر لايعيش معه فى نفس المكان أو نفس الزمان. وإذا كانت الشفاهية قد قيدت حدود التواصل الإنسانى داخل زمان بعينه وفى إطار مكان محدد ، فإن الكتابة كسرت هذه الحدود وأطلقت الفكر البشرى فى رحابة الزمان والمكان. وهذا هو السبب فى أننا نقول إن الكتابة كانت أخطر ابتكارات الإنسان التكنولوجية . فقد أدت الكتابة إلى إعادة بناء الحياة الإنسانية وربطت الإنسان بتراثه وتاريخه ، كما أدت إلى أنماط من التراكم المعرفى كانت من أهم أسباب تقدم البشرية . وإذا كان هذا يصدق على الكتابة عمومًا ، فإنه يصدق بشكل خاص على الكتابة بالحروف الهجائية أو الأبجدية.
ويرى بعض العلماء أن عمر الإنسان على الأرض حوالى خمسين ألف سنة ، على حين كان ظهور أول كتابة حقيقية سنة 2500 ق.م ، أى منذ حوالى أربعة آلاف وخمسمائة سنة. ويلفت النظر هنا أن إنجازات البشر كلها قد تمت فى الفترة التى عرف فيها الكتابة على الرغم من أنها تمثل عشرة بالمائة من عمر الإنسان على الأرض. وهو ما يوضح لنا مدى التأثير الإيجابى الذى تركته الكتابة على الحياة الإنسانية والكيفية التى أدت بها إلى إعادة بناء الحياة الإنسانية. وإذا كانت الكتابة ، بحد ذاتها ، نقلة من الكلام الشفاهى إلى الكلام المكتوب ، أى نقلة من عالم الصوت إلى الفراغ المرئى . وما نتج عن ذلك بالضرورة من تطورات إيجابية فى تاريخ الإنسانية، فإن الكتابة هى التى ساعدت أيضا على تطوير وتحسين إمكانيات اللغة بشكل لا يمكن قياس مداه . إذ إن الكتابة تعيد بناء الفكر الإنسانى من خلال رصيدها المخزون من ناحية. كما أنها تمنح اللغة قوة ذاتية لا تدانيها قوة أية لهجة شفاهية خالصة من ناحية أخرى. وتفسير ذلك أن الكتابة تتيح للغة أن تختزن رصيدًا من الكلمات يزيد زيادة مطردة مع امتداد تاريخ هذه اللغة، كما أن الكتابة تتيح لنا معرفة التطور التاريخى لدلالات الكلمات عبر عصور استخدام اللغة. ومن هنا تزداد قدرة اللغة على تطوير ذاتها وإعادة استخدام رصيدها المخزون من الكتابة.
فإذا ما أخذنا اللغة الإنجليزية الرسمية مثالاً ، لوجدنا أنها تضم حوالى مليون ونصف مليون كلمة تستخدم حاليًا، على الرغم من أن مفردات كثيرة فى هذه اللغة تمت استعارتها من الفرنسية التى كانت لغة الحكم والإدارة والأدب منذ أن قام وليم الفاتح بغزو إنجلترا سنة 1060م. وفضلاً عن ذلك ، فإن الباحثين المتخصصين يعرفون المعانى الكثيرة التى كانت هذه الكلمات تحملها فى الماضى . وتنسحب هذه الحقيقة، مع اختلاف الأرقام، على اللغة العربية واللغة الفرنسية . وكافة اللغات المكتوبة . وفى المقابل، لا نجد أية لهجة شفاهية تمتلك من المفردات ما يزيد على عدة آلاف كلمة ولا يمكن معرفة التطور التاريخى لهذه الكلمات.
ويطول بنا الحديث كثيرًا إذا فكرنا فى رصد التأثيرات الهائلة التى تركتها الكتابة على الحياة الإنسانية . ولكن الانتقال من الكتابة إلى الطباعة (منذ اختراع طباعة الحروف المنفصلة فى أوروبا القرن الخامس عشر على أساس من تطوير الطباعة الصينية التى كانت معروفة قبل ذلك التاريخ) قد خلق تأثيرات بعيدة المدى على كيفية استخدام الفراغ المرئى بطريقة أفضل من الكتابة اليدوية . وهو ما أدى بدوره إلى استبعاد الشفاهية وعالم الصوت من الصورة إلى حد ما. ذلك أن الكتابة لم تستطع أن تزيح الشفاهية عن عرشها سوى بعد الطباعة إذ كانت الكتابة اليدوية تستخدم الفراغ المرئى بشكل جمالى أحيانًا ، ولكنها كانت فى خدمة الأداء الشفاهى للغة فى معظم الأحيان. كما أن الطباعة قضت على قدر كبير مما بقى من قيمة للشفاهية بفضل تطور أساليبها . ففى عصور ما قبل الطباعة كانت الكتابة لا توفر سوى عدد قليل من النسخ المخطوطة من أى كتاب، إذ كان عدد الذين يعرفون الكتابة قليلاً تمامًا فى كل مكان. كما كان عدد الذين يعرفون القراءة أكثر من عدد أولئك الذين يحسنون الكتابة ؛ فالكتابة كانت، ولاتزال ، أصعب كثيرا من القراءة. وهذا هو السبب فى أن الشفاهية وعالم الصوت ظلت هى الحيز المناسب للعلم والثقافة والمعرفة فى العصور القديمة وفى العصور الوسطى على حد سواء .
فقد كان الكاتب يملى كتابه على ناسخ محترف ، أو يكتبه بنفسه ، ولم يكن ممكنًا إنتاج عدد من النسخ يزيد على أصابع اليد الواحدة فى حياة المؤلف. ومن ثم كان طبيعيا أن النصوص كانت تكتب بطريقة تتيح قراءتها على جمهور من السامعين ، وأدى ذلك بالضرورة أن صار «الحفظ» و «الرراية» من الفضائل العلمية والثقافية . ومن يقرأ المخطوطات الكثيرة التى حفظها الزمن من تراث الحضارة العربية الإسلامية سيكتشف هذه الحقيقة من خلال العبارات الدالة؛ مثل عبارة «تأليف فلان برواية فلان» أو من خلال الطرائف وقصص الخوارق والمعجزات التى تعترض سياق النص. وهى كها أشبه بالتوابل التى تزيد من انتباه السامع إلى النص المقروء وسط حلقة من السامعين.
وفى أوروبا العصور الوسطى، فى الفترة ما بين سنة 800 وسنة 1200م تقريبًا، ارتفعت تكاليف إنتاج الكتاب كثيرًا ؛ إذ كانت لفافة البردى المستوردة من مصر قد اختفت وحلت محلها جلود الرق الغالية الثمن والتى كان يتم تجهيزها على شكل رزم تخاط سويًا وحولها غلاف سميك يحفظها من التفكك. واختفى العبيد المتمرسون على أعمال النسخ الذين عرفتهم الإمبراطورية الرومانية، وصار الكتاب بحد ذاته شيئا نفيسًا يمكن تداوله من خلال الهدايا أو التبادل ، أو البيع بأثمان باهظة . وفى ذلك الحين كانت حجرات النسخ Scriptoria التى انتشرت فى الأديرة والكاتدرائيات هى مراكز إنتاج الكتاب الرئيسية . وفى بعض الأحيان كان الرهبان والقساوسة يستأجرون النساخين والفنانين المحترفين لنسخ المخطوطات وتوشيتها بالرسوم التوضيحية. ومع هذا فإن المؤلفين كانوا يتوقعون أن تقرأ كتبهم بصوت عال لحلقة من السامعين؛ ولذلك كان المؤلف يضع فى اعتباره، منذ اللحظة التى يبدأ فيها تأليف كتابه، الكيفية التى سيتم بها «الاستماع» إلى هذا الكتاب. (انظر مزيدًا من التفاصيل فى: بيرل سمالى، المؤرخون فى العصور الوسطى، ترجمة قاسم عبده قاسم، دار المعارف 1984م، ص13-20).
هكذا، كان للشفاهية تأثيرها المباشر على الكتاب قبل اختراع الطباعة. إذ إن التعامل مباشرة مع جمهور السامعين كان له تأثيره على مضمون الكتاب بقدر ما كان له تأثيره على شكل هذا الكتاب أيضًا . فالقارئ الذى لا نراه قد يغلق الكتاب متثائبًا إذا ما أحس بالضجر ، ولكن المستمعين الذين نراهم يعبرون عن ضجرهم بطريقة واضحة. فالكاتب الذى يخاطب الأذن لابد أن يلجأ إلى كل حيلة ممكنة لكى يحوز رضاء سامعيه ويجذب انتباههم. وسواء كان يخاطب جمهوره مباشرة، أو يتخيل أن أحدًا غيره سوف يقرأ لهم كتابه، فإنه كان يتوخى التأثير البلاغى فى سامعيه . لقد كان الكتاب والمؤلفون ، قبل الطباعة ، يخاطبون جمهورهم باعتبارهم «قراء» وباعتبارهم «مستمعين» فى آن واحد .
من هنا اكتسبت الطباعة أهميتها وخطورتها؛ إذ إنها أتاحت نشر المعرفة والعلم على نطاق واسع لم يعرفه العالم من قبل ، كما تركت تأثيرات إيجابية متزايدة على الوعى الإنسانى، فضلاً عن أنها ساعدت بشكل غير مسبوق على نشر معرفة القراءة والكتابة. بل إن البعض يذهب إلى أن الطباعة هى التى جعلت نهضة الغرب نهضة دائمة. وعلى أية حال، فإن ما يهمنا فى هذه الدراسة هو أن الطباعة هى التى خلقت الفرصة للعلاقة الحميمة بين الإنسان والكتاب. فقد وفرت الطباعة إمكانية إنتاج كتاب زهيد الثمن وبأعداد كبيرة بحيث يمكن للإنسان أن يشترى نسخة خاصة به ، يقرأها وحده، وقتما يريد وحيثما يشاء ، دون أن يضطر إلى مشاركة الآخرين فى المكان والزمان «للاستماع» إلى الكتاب. ومع اختراع «النظارة» عند بداية القرن الرابع عشر، زاد معدل «عمر القراءة» عند الإنسان؛ وبالتالى زادت عوامل الألفة والخصوصية فى العلاقة بين الإنسان والكتاب. ورويدًا رويدًا تخلى الناس عن عاداتهم فى القراءة بصوت عال (على الرغم من أن بعض الطلاب لا يزالون يصرون على هذه القراءة المسموعة) . ومع مرور الزمن صار من عادات القراءة أن يجرى القارئ بعينيه فوق سطور الكتاب دونما صوت . وهو الأمر الذى يدل مرة أخرى على خصوصية العلاقة بين الإنسان والكتاب.
ولأن المعرفة ضرورة اجتماعية لكل الجماعات البشرية، فإن الكتاب صار من أهم الوسائل التى يستخدمها الإنسان لتلبية هذه الحاجة الاجتماعية الضرورية . وعلى الرغم من وجود الوسائل الشفوية والسمعية والبصرية ، قبل ظهور الكتاب وبعده، فإن الكتاب انفرد بالعلاقة الحميمة مع الإنسان . ولعل ما يلفت النظر حقًا فى هذا الموضوع أن الكتاب يتربع على قمة الوسائل المعرفية فى المجتمعات التى ابتكرت الوسائل السمعية والبصرية الحديثة (الراديو، والسينما، والتليفزيون، والكبيوتر . وغيرها)، على حين تتعرض العلاقة بين الإنسان والكتاب فى العالم العربى لتراجع مزعج ومخيف !! ويثور سؤال يطرح نفسه بإلحاح : لماذا ؟
هذا السؤال طرح نفسه فى العقود الأخيرة بأشكال متعددة ولكنها تصب جميعًا فيما اصطلح على تسميته «أزمة الكتاب» فى العالم العربى. وقد أريق الكثير من الحبر وسودت عشرات الصفحات ، وعقدت ندوات ومؤتمرات تحاول الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بما اتفق على أنه «أزمة الكتاب» . وعلى الرغم من أن هذه المحاولات قد أثمرت بشكل طيب ، فإن حانبًا مهمًا قد غاب عن المناقشات والمساجلات : وهو الجانب الذى يبحث «أزمة العلاقة بين الإنسان والكتاب فى العالم العربى» بدلاً من أزمة الكتاب. والمسألة، فى تقديرى ، ليست مجرد تغيير فى عنوان موضوع مهم، بقدر ما هى محاولة للنظر إلى الموضوع من زاوية جديدة. كما أن هذه الدراسة ليست نفيًا ، أو رفضا، لاجتهادات سبقت فى الموضوع ؛ وإنما هى محاولة إضافة تعزز الاجتهادات السابقة، ودعوة إلى مناقشة أوسع وأكثر رحابة لموضوع يمثل نقطة ارتكاز حيوية فى بناء مستقبل أجمل نحلم به، ولكننا لا نبذل من الجهد ما يكفى لبنائه .
وكثيرًا ما تطرقت المناقشات حول «أزمة الكتاب» فى العالم العربى إلى الجوانب الاقتصادية والإدارية والمالية والسياسية والأمنية التى تعوق ازدهار صناعة الكتاب فى العالم العربى . وهذه كلها أمور حقيقية لاشك فى أنها تقف حجر عثرة أمام قيام علاقة جيدة بين الإنسان والكتاب ؛ إذ إن بعض الدول العربية تعامل الكتاب على أنه عدو محتمل ولا يمكن السماح بدخوله إلا بعد أن يثبت أنه حسن السير والسلوك، وبعض دول العرب تعامله معاملة الضيف الثقيل ، على حين أن البعض الآخر يتعامل مع الكتاب باعتباره سلعة استهلاكية يمكن أن تكسب الدولة من فرض الرسوم والجمارك عليها فى كل مرحلة من مراحل تصنيعها.
هذه الأسباب ، إلى جانب التأثيرات السياسية الناجمة عن حالات المد والجزر فى علاقات الدول العربية ببعضها ، من أهم الأسباب التى أدت إلى عدم ازدهار صناعة الكتاب فى العالم العربى حقًا ، كما أنها تركت تأثيراتها السلبية على العلاقة بين الإنسان والكتاب . بيد أن هناك بعدًا آخر يمكن أن يساعدنا على تفسير «أزمة العلاقة بين الإنسان والكتاب فى العالم العربى». فعلى الرغم من كثرة عدد السكان النسبى ، وعلى الرغم من أن نصفهم على أقل تقدير قد أفلتوا من براثن الأمية، فإن أوسع الكتب انتشارًا فى العالم العربى لاتطبع منه سوى عدة آلاف قليلة لاتتناسب مع عدد الملايين القارئة فى البلاد العربية.
وإذا ما استثنينا الكتب الدراسية، فإن توزيع الكتاب فى العالم العربى يعانى أزمة حقيقية على الرغم من كثرة عدد المعارض وأسواق الكتب. ولأن هذه الدراسة لا تحاول رصد «أزمة الكتاب» وتفسير أسبابها فإن الإشارة السريعة إلى بعض جوانب الأزمة وأسبابها يمكن أن تكون كافية فى هذا المجال . ولكن هذه الدراسة تحاول فهم العلاقة بين الإنسان والكتاب من خلال القراءة الاجتماعية والنفسية لهذه العلاقة. ولأن العلاقة بين الإنسان والكتاب علاقة متعددة الجوانب من ناحية، ولأنها تعبير عن تراث المجتمع وثقافته ونظامه القيمى والأخلاقى من ناحية ثانية، ولأن هذه العلاقة حصاد تفاعل تاريخى طويل بين الكلمة المكتوبة والفكر الإنسانى والكتاب يبدأ مع بداية تعلم الإنسان القراءة والكتابة . وهذه البداية هى التى يمكن أن تشكل علاقة الفرد بالكتاب طوال حياته. وتفسير ذلك أن الإنسان الفرد يبدأ بناء علاقاته بالعالم، وتشكيل رؤيته لمفردات هذا العالم، من خلال بيئته والثقافة السائدة بها ومنظومة القيم والمثل العليا السائدة. وهذا كله هو الذى يحفز الإنسان الفرد على بناء علاقات إيجابية فى اتجاه ما، ونبذ علاقات أخرى فى اتجاه غيره. وينسحب هذا الكلام، بطبيعة الحال، على الإنسان فى العالم العربى. فما هى حكاية العلاقة بين الإنسان والكتاب فى العالم العربى؟ وأين وصلت ؟
تبدو علاقة الإنسان العربى بالكتاب المطبوع متأخرة زمنيًا عن علاقة الإنسان الأوروبى بالكتاب ، على الرغم من أن علاقة العرب بالكتابة قديمة قدم الكتابة نفسها. ومع أن العرب، أو بعضًا منهم على الأقل، عرفوا إنجازات تكنولوجية أقل فى أهميتها من الطباعة بعد استخدامها فى أوروبا بسنوات قليلة (مثل القطار والسيارة والترام والسينما… وغيرها) فإن معرفتهم بالطباعة تأخرت عن أوروبا بحوالى ثلاثة قرون. وربما يمكن تفسير ذلك فى ضوء الظروف التاريخية الموضوعية التى حكمت العالم العربى آنذاك. ومع هذا ، وربما بسبب هذا، حاول العرب فى مصر وبلاد الشام تعويض ما فاتهم فى مجال الكتاب المطبوع، وتمكنوا فى وقت قصير من بناء علاقة راسخة الأركان بين الإنسان العربى والكتاب : اعتمادًا على تراثهم الوفير من المخطوطات التى شملت كل نواحى المعرفة الإنسانية فى عصر ازدهار الحضارة العربية الإسلامية ، وعلى مفاهيم وقيم العلم الكامنة فى مجتمعاتهم برغم تخلفهم السياسى وتدهورهم الاقتصادى. وتجلت هذه الحقائق فى آلاف من عناوين الكتب التى طبعت فى العالم العربى، أو خارجه ، تحمل جوانب من التراث العربى ، أو ترجمات للفكر الأوروبى الحديث ، أو مؤلفات تتناول الجوانب المتنوعة والمثيرة للحياة العربية فى ذلك الحين .
وعلى الرغم من محنة الاحتلال الأوروبى لبلدان العالم العربى، فإن الاهتمام بالعلم والتعليم اتخذ شكلا إيجابيا متصاعدا بلغ ذروته فى قيام الجامعة المصرية بجهود أهلية وتبرعات فردية. وكان قيام الجامعة المصرية عملا من أعمال المقاومة الوطنية ضد الاحتلال بكل المعايير. وقد لعبت الجامعة دورا مهمًا فى توطيد العلاقة بين الإنسان والكتاب فى العالم العربى لا سيما بعد أن توالى بناء الجامعات فى شتى أرجاء المنطقة العربية.
ونشأت أجيال عديدة من أبناء العرب على احترام الكتاب وعلى تقدير قيمة العلاقة الحميمية بين الإنسان والكتاب. وحين بدأ التعليم يأخذ شكله الحديث فى مرحلة ما قبل الجامعة كان الكتاب عماد هذا التعليم الحديث بطبيعة الحال، وكانت العلاقة بين الإنسان والكتاب تأخذ شكلا جيدا وإيجابيا بسبب نجاح المدرسة فى بناء علاقة إيجابية ومحترمة بين الإنسان والكتاب؛ فمن حيث الشكل كان الكتاب مقبولا بمقاييس ذلك الزمان وحسب الإمكانيات الفنية للطباعة آنذاك، ومن حيث المضمون كانت الكتب تحتوى على مادة مقبولة وجميلة فى موضوعات القراءة والأدب والعلوم فى سنوات التعليم الأولى ، وكانت وراءها فلسفة لبناء معرفى متكامل من خلال الكتاب؛ إذ لم يكن الكتاب وسيلة تعليمية فحسب ؛ وإنما كان وسيلة تثقيف وترفيه أيضا. كذلك كانت هناك فرصة طيبة للاستمتاع بالكتاب خارج نطاق الدروس ، سواء كان الكتاب يضم بين صفحاته رواية، أو مجموعة قصصية ، أو معارف عامة. فقد كانت المدارس توفر نظاما تعليميا متكاملا يتيح للتلاميذ وقت الفراغ المناسب لممارسة هواياتهم المختلفة.
وخارج أسوار المدرسة والجامعة كانت البيئة الثقافية حافزة ومشجعة ، إذ إن دور النشر الكثيرة تنافست فى تقديم الكتاب زهيد الثمن جيد المضمون حسن الإخراج . وخلال فترة الستينيات من القرن العشرين بلغت العلاقة بين الإنسان والكتاب فى العالم العربى ذروتها؛ وتنافست العواصم العربية على النشر والقراءة. وربما كان المد القومى الحماسى والمشروع القومى الذى تعلقت به آمال العرب من أسباب رواج صناعة الكتاب وازدهار العلاقة بين الإنسان والكتاب .
ثم جاءت فترة السبعينيات من القرن الماضى بأعاصيرها السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية . وجرى ما جرى … وتدفقت فى نهر الحياة العربية مياه كثيرة وعنيفة غيرت البيئة الثقافية والتعليمية فى معظم بلاد العالم العربى، وتبدلت المفاهيم والقيم والمثل العليا، وابتليت المنطقة العربية بحالة من السيولة الفكرية والثقافية . وخضع نظام التعليم لهزات عنيفة وتجارب عشوائية . وكان طبيعيا أن تتأثر العلاقة بين الإنسان والكتاب بهذه الظروف التاريخية السلبية، لكن أخطر ما حدث فى هذه السنوات الرمادية أن الإنسان العربى، لا سيما فى مصر، قد وقع فريسة لنظام تعليمى يجعل من الكتاب عدوا، أو على الأقل رفيقا إجباريا ثقيلا .. كيف ؟
مع تغير منظومة القيم الاجتماعية بسبب عواصف السبعينيات وأعاصيرها ، سادت المجتمع المفاهيم الاستهلاكية بكل تداعياتها القبيحة، وصار التباهى والتظاهر والتفاخر من علامات هذا المرض الاجتماعى الجديد. وتصاعد شعور بالدونية إزاء « الآخر» زاد من وطأته أن الشرائح التى استطاعت اقتناص الثروات فى سنوات الانفتاح الاقتصادى والفوضى كانت تفتقر إلى الوعى والفهم وظنت أن التباهى بالثروة يمكن أن يغنى عن الاغتناء بالعلم والمعرفة . ونتجت عن ذلك أمور كثيرة يهمنا منها ما حدث فى مجال التعليم والثقافة.
ظهرت المدارس الخاصة لتقوم بدور مهم فى خدمة أبناء الشرائح الاجتماعية الجديدة مع تغير النظرة الاجتماعية للمدرسة الخاصة. وظهرت نزعة التعليم باللغات الأجنبية للصغار لتبرير الرسوم والمصروفات الباهظة التى يدفعها الآباء وهم فخورون بأن أبناءهم ليسوا ضمن تلاميذ المدارس «الحكومية» التى لا يدخلها سوى الغلابة. وزادت نغمة التباهى والتفاخر على حساب التعليم نفسه . ولأن المدرسة الخاصة «مشروع تجارى» بمفاهيم زمن الانفتاح ، فلابد من زيادة نسبة الربح بفصول الحضانة التى تعلم الأطفال كلمات أجنبية يفرح بها الآباء والأمهات فى تطلعاتهم الطبقية.
فى هذه السنة الباكرة «يصطدم» الطفل بالكتاب . فعليه أن يقرأ ويفهم ويستذكر ، فإذا ما وصل إلى سن السادسة كان جاهزا لرحلة عذاب وعداء مع الكتاب . فالتلميذ يذهب إلى مدرسته حاملا حقيبة ثقيلة ينوء بها كاهله الصغير، وداخلها عدة كتب عليه أن يحملها فى رحلتى الذهاب والإياب . فإذا وصل المدرسة وجد نفسه مسئولا عن محتوى الكتاب، ومطالبا بالواجبات الثقيلة وإلا تعرض للمهانة، وعندما يرجع إلى المنزل يطارده الكتاب بمحتواه وبالواجبات التى يلاحقه الأب والأم بضرورة إنجازها.
وفى ظنى أن هذه المرحلة هى التى أساءت إلى العلاقة بين الإنسان والكتاب، فقد جسد الكتاب كل عوامل القهر والإحباط لدى الطفل المحروم من طفولته فى ظل نظام تعليمى يفتقر إلى أية فلسفة أو هدف واضح ويقوم على تسديد الخانات. ففى هذه المرحلة المهمة من عمر الإنسان تتشكل علاقاته بالكون وبالأشياء من خلال مقاييسه الخاصة، وتبدأ علاقات المحبة والكراهية والضرورة بالتجارب التى يخوضها الطفل فى سنى عمره الأولى. وإذا تحول الكتاب إلى رمز للمعاناه الجسدية والنفسية بسبب تهافت العملية التعليمية، كانت العلاقة بين الإنسان والكتاب هى الضحية الأولى .
وعندما يخطو الإنسان خطوات أبعد فى طريق العمر، يكتشف أن الكتاب فى المرحلة الإعدادية والثانوية ليس سوى عقبة يجب أن يجتازها ، فمضمون الكتاب ثقيل ومنفر، ولابد من الكتب الخارجية التى تقدم «البلابيع»التى تسهّل الدراسة، وتقدم التدريب على تخطى الحواجز والعقبات لأن الامتحان فى آخر العام يتبنى فكرة الحفظ والاسترجاع . وهكذا صار الكتاب، مرة أخرى، ضحية للعبة قفز الحواجز وجمع الدرجات فى نظام تعليمى لا يقوم على البناء المعرفى. ثم تطور الأمر نحو ما هو أسوأ، فقد بدأ المدرسون- ضمن نشاط الدروس الخصوصية- يقومون بعمل الملخصات وملخصات الملخصات . ومن ثم زادت العلاقة بين الإنسان والكتاب تدهورا وتنافرا. فإذا أضفنا إلى ذلك كله ما تخلقه «حالة الثانوية العامة» – وهى حالة مرضية على أية حال- فى مصر من سباق محموم على جمع الدرجات من خلال الدروس الخصوصية والملخصات ، أدركنا أن الكتاب وقع ضحية تحت الأقدام المهرولة سعيا وراء الحصول على «المجموع» .
ومن الطبيعى أن الطالب الذى يطحنه هذا السباق لن يجد الوقت الكافى لكى يقرأ خارج «المقررات» الدراسية، لاسيما أن الكتب التى فرضت عليه من جانب وزارة التربية والتعليم تفتقر إلى جاذبية المضمون والشكل. فإذا دخل الطالب الجامعة كان قد وصل إلى سن يصعب فيها إعادة تشكيل علاقاته الوجدانية والعاطفية والعقلية. فنجد بعض طلبة الكليات لايجدون الوقت للقراءة ولا يحاولون أن يقرأوا لأنهم لم يعرفوا هذه «العادة» منذ الصغر ، كما أن فكرة «الكتاب المقرر» قد سادت فى أوساط التعليم الجامعى بحيث نجد هناك نوعا من الإجبار على عدم البحث، بل إن المجالس الجامعية تجتمع سنويا لبحث الجوانب المختلفة تكريسا لفكرة «الكتاب المقرر» على الرغم من كل آثارها السلبية على العلاقة بين الإنسان والكتاب . وتحولت بعض كليات الجامعات إلى أسواق من نوع غريب لبيع الكتب . فبسبب تدنى رواتب أعضاء هيئة التدريس عامة، لجأ البعض إلى فرض كتابه على الطلاب لتعويض النقص فى دخله بطريقة يظن أنها مشروعة . وبدأت سياسة فرض الكتاب على الطالب بأساليب متنوعة، وعلى الجانب الآخر بدأت محاولات الهروب من الكتاب بأشكال مختلفة. واتخذ الأمر شكل الحرب المضحكة المبكية … ومرة أخرى كانت العلاقة بين الإنسان والكتاب هى الضحية . فقد صار الكتاب سلعة إجبارية مفروضة على « زبائن» لا يريدونها لأسباب اقتصادية ونفسية.
ولعل هذا يفسر لنا جانبا من الأسباب التى جعلت قسما كبيرا من الشباب يخاصم الكتاب ويقبل على الوسائل السمعية والبصرية الأخرى باعتبارها مصادر الترفيه والتعليم بعد الخروج من الجامعة. وربما تكشف الدراسات التى ينبغى إجراؤها على سوق الكتاب أن نسبة من يشترون الكتب من الشباب أقل كثيرا مما ينبغى . وتوضح الملاحظات الأولية أن معظم الذين يشترون الكتب من الرجال فوق سن الأربعين.
إن جانبا كبيرا من جوانب «أزمة الكتاب» فى العالم العربى يرجع، فى تصورى ، إلى تدهور العلاقة بين الإنسان والكتاب. وعلى الرغم من تسليمنا بأن الجوانب الاقتصادية والإدارية والسياسية تلعب دورها فى هذه الأزمة، فإن انحسار التقدير الاجتماعى لقيمة الكتاب، رفيقا وصديقا نافعا ، ربما يفسر لنا الأسباب الرئيسية وراء هذه الأزمة. فالنظام التعليمى يتطلب إصلاحا جذريا ، والبيئة الثقافية تستوجب إعادة النظر وإعادة البناء، ونظام القيم والمثل العليا يحتاج إلى زرع قيمة المعرفة فى نفوس الناس منذ خطواتهم الأولى فى الحياة . وفى هذا السياق يجب أن نعترف أن هناك جهودًا كبيرة تبذل لكى تعود عادة القراءة وصحبة الكتاب، ولكن هذه الجهود الحميدة تحاول إصلاح أعراض الأزمة دون التنبه إلى جذورها. وبعبارة أخرى، فإن الجهود المبذولة لنشر القراءة وخلق علاقة جيدة بين الإنسان والكتاب توجه إلى الأطفال والشباب الخاضعين لنظام تعليمى (من الابتدائى إلى الجامعة) يجعل الكتاب عبئا ورفيقا ثقيل الوطأة.
فالكتاب المدرسى ، كما أسلفنا القول، غير مريح فى شكله وفى مضمونه على السواء. والمكتبات المدرسية لا تلقى العناية الكافية وربما لا تلقى عناية على الإطلاق ، والقراءة الحرة تكاد تكون نوعا من المحظورات أو المحرمات بسبب سباق المجموع وحشو المعلومات فى الكتب المدرسية. وعلى الرغم من جهود بعض الجهات فإن الأمر يحتاج إلى خطة قومية لكى يعود الكتاب إلى عرشه باعتباره من أهم مصادر المعرفة والتثقيف والترفيه. وفى هذا كله ينبغى أن ينصب الاهتمام على الذين يبدأون الطريق من أوله ، أى من الأطفال. وهناك من المؤشرات الإيجابية ما يدعونا إلى التفاؤل بهذا الصدد ، فالعلم قيمة مهمة من قيم المجتمعات العربية عامة . والكثير من العائلات يمكن أن تضحى فى سبيل تعليم أبنائها بضروريات حياتها . كما أن المخزون الحضارى والثقافى الذى أفادت منه الأجيال العربية الأكبر سنا يصلح قاعدة ارتكاز مهمة ينطلق منها الإصلاح الثقافي والعلمى . كما أن مؤسسات حكومية مهمة فى بعض الدول العربية (مثل مصر والكويت، وعُمان… وغيرها) تنفق بسخاء على سلاسل الكتب التى تحمل المعرفة والعلم والثقافة بأثمان زهيدة إلى الجمهور العريض من القراء. فضلا عن أن التيار الطارئ الذى أفسد حياتنا الثقافية قد أوشك على الانحسار على الرغم من أن طنينه المزعج يطاردنا ليل نهار ؛ بدليل أن الشكوى منه أصبحت عامة وعلنية ، وبدليل أن عددا من «نجوم» هذا التيار الفاسد قد هوى أو خبا بريقه . ومع مؤشرات مفرحة فى الموسيقى والغناء والمسرح والشعر هنا وهناك تبدو بشائر أفق جديد لبيئة ثقافية يمكن أن تزدهر (انظر إلى احتفاء الناس بالمطبوعات الجادة التى تنشر العلم والمعرفة هنا وهناك).
إن الخوف الحقيقى من أزمة العلاقة بين الإنسان والكتاب لا يكمن فى الحاضر ، فما زالت الأجيال التى نشأت وتربت على العلاقة الحميمية بين الإنسان والكتاب قادرة على القراءة وقادرة على صون العلاقة مع الكتاب . ولكن الخوف الحقيقى على المستقبل حين يخرج إلى الحياة ملايين الشباب الذين فسدت العلاقة بينهم وبين الكتاب للأسباب التى طرحناها وغيرها. فهل فات أوان الإصلاح ؟ لا أظن .