من تاريخ البطاطس (مستخرج من كتاب السعى إلى المجد تأليف بلاننج ترجمة الدكتور قاسم عبده قاسم)
نشرت في مارس 26, 2016 عن طريق دار عين - قسم دكتور قاسم عبده قاسمكانت البطاطس التى قدمت أول مرة من موطنها فى أميركا الجنوبية إلى إسبانيا وإيطاليا فى سنة 1563م ، وكانت قد وصلت إلى الأراضى الواطئة فى سنة 1587 م ، عندما وضع المندوب البابوى البطاطس ضمن قائمة غذائه ، وقدمت إلى الأراضى الواطئة بعدها بسنة ، وإنجلترا فى وقت ما من ثمانينيات القرن السادس عشر ، وفى فرنسا قبل نهاية القرن بالضبط . ولم تصل إسكندنافيا وشرق أوربا حتى منتصف القرن الثامن عشر . وعلى الرغم من هذا الوجود المبكر ، أخذت البطاطس وقتا طويلا لكي ترسخ مكانتها ، وهو أمر لا يدعو للدهشة فى ضوء المظهر غير الجذاب والبنية التى اتسمت بها التنويعات الأولى من البطاطس ذات لببيعة الهشة . وعلى أية حال ، كانت المزايا التى تعوض هذا عظيمة جدا لدرجة أن البطاطس فى النهاية استطاعت أن تكتسب القبول ، أولا فى البستنة ثم فى الزراعة ، وكما يعرف كل بستاني ، تمتاز البطاطس بسمة خاصة ، لأن زراعتها سهلة، وتتطلب أقل قدر من الاهتمام ، وتصل للنضج بسرعة ، كما أنها – وهذا هو الأهم – تنتج غلات وفيرة. وفى المطبخ تلقى البطاطس ترحيبا مساويا لأنها تتطلب القليل جدا من التجهيز ، ويمكن طبخها فى سهولة بعدة طرق مختلفة وهى طيبة المذاق ومشبعة على السواء .
وبحسب مؤرخ اقتصادي هولندي هو « سليشر فان باث» ، فى القرن الثامن عشر كانت غلة الفدان من البطاطس أعلى عشر مرات ونصف من القمح ، وست مرات وستة من عشرة أكثر من الشيلم وهو أكثر من تعويض السعرات الحرارية المنخفضة فيها . ولكي نضع هذه الإحصائية بطريقة أخرى ، تكون القيمة الخالصة للسعرات الحرارية للبطاطس ثلاث مرات وستة من عشرة أكثر من الحبوب . وقد قرر آدم سميث فى كتابه ثروة الأمم (1776م) مؤكدا : «الطعام الذى تم إنتاجه من حقل بطاطس ليس أقل فى الكمية من ذلك الذى ينتجه حقل من الأرز ، ويفوق كثيرا ما ينتجه حقل من القمح. واثنى عشر ألف وزنة من البطاطس من هكتار الأرض ليس إنتاجا أكبر من ألفى وزنة من القمح» . وقد علَق أيضا بأنه فى أثناء السنوات الثلاثين أو الأربعين السابقة انخفض سعر البطاطس إلى النصف، عندما كانت زراعتها قد انتقلت من الحديقة إلى الحقل . والأكثر مدعاة للجدل ، أنه غامر بالرأي القائل إن فائدة قائمة الطعام التى تضم البطاطس يمكن أن نشهد بها فى الطاقة الجسدية المثيرة للعمال والمومسات فى لندن (أقوى الرجال وأجمل النساء ربما فى الأراضى البريطانية كلها) .خاصة عندما تتم مقارنتها برفاقه من الاسكتلنديين الذين يشعرون بالدوخة ، ويتغذون على قائمة طعام الشوفان» .
كانت البطاطس أيضا أقل عرضة لتقلبات الطقس من معظم المواد الغذائية الأخرى . وبالنسبة لأوربا فى مطلع العصور الحديثة ، لم يكن السؤال مطروحا عما إذا كان محصول الحبوب سوف يفشل وإنما متى سوف يفشل . وكان المجتمع الذى يستطيع أن يعتمد على البطاطس عندما يحدث هذا مجتمعا قد حرر نفسه من خطر المجاعة . وكما زعم الإنجليزي «جون فوستر» فى كتيب سنة 1664م ، كانت البطاطس « علاجا أكيدا وسهلا» لنقص الطعام . وبطبيعة الحال ، كان الاعتماد المفرط على البطاطس يمكن أن يؤدى أيضا إلى كارثة إذا ما ضرب المرض ضربته ، كما حدث فى أيرلندا فى أربعينيات القرن التاسع عشر ، ولكن فى القرن الثامن عشر كانت البطاطس منقذة للأرواح ولذلك السبب وحده كانت الحكومات حريصة على تحسين زراعتها . ولأسباب لا تزال غير واضحة كانت ثمار جهودهم قليلة فى فرنسا ، باستثناء الأقاليم المنعزلة على الهوامش فى دوفينى والبرينيس . ولا حتى الأنباء القائلة إن البطاطس تقدم على موائد العائلة الملكية فى فرساي أو المطبوعات التى تصور الملكة مارى أنطوانيت ترتدى ثوبا تزين صدره زهور البطاطس ،كانت كافية للتغلب على الانحياز الراسخ بحيث أن البطاطس لم تظهر على قوائم الطعام الفرنسية حتى القرن التالى . فى تولوز ، مثلا ، وجد روبرت فوستر أن الفلاحين لا يطعمون البطاطس حتى لخنازيرهم ، خوفا من أن يتلوث لحمها .وقد ابتكر ، أهل بورجنديا التسمية الفرنسية pomme de terre – ولكنهم أيضا منعوا البطاطس على أساس أنها تسبب البرص . وعندما كان عالم الفيزياء المستنير تورجوت مسئولا فى ليموج سنة 1761م حاول أن يفند الاعتقاد الشعبي بأن الزهرة القرمزية للبطاطس نسخة من نبات عنب الثعلب المميت إذا ما أكلت علنا وجعل الفلاحين يجلسون بجواره لكي يلاحظوا أنه لم يتسمم . ولم يكن الفرنسيون ، بطبيعة الحال ، وحدهم فى انحيازاتهم . ففى سنة 1770م رفض أهالى نابولى الذين تأثروا بالشائعات أن يمسوا حمولة مركب من البطاطس أرسلت إليهم على سبيل المنحة ؛ وقد أخبر سكان كورلبرج فى بروسيا الإمبراطور فريدريك العظيم : «هذه الأشياء ليست لها رائحة ولا طعم ،وحتى الكلاب لن تأكلها ، إذن فما هى بالنسبة لنا ؟» : ولم يكن الفلاحون الروس يثقون فى البطاطس لأنها لم تذكر فى الكتاب المقدس ، ويعتقدون أنها تسبب الكوليرا وثاروا عندما جرت محاولات لإجبارهم على زراعتها .
وعلى الرغم من الانحياز الشعبى ، فى جميع أنحاء الجزر البريطانية ، والبلاد الواطئة ، وشمال أوربا وفى أجزاء كثيرة من الإمبراطورية الرومانية المقدسة ، أحدثت البطاطس تأثيرا غذائيا كبيرا بحلول سنة 1815م .وعلى غير المعتاد ، كان الفلاحون الأيرلنديين هم الذين فى طليعة التقدم . وكما كتب أحدث مؤرخ للبطاطس ، « لارى زوكرمان» «ليست هناك أمة أوربية كانت لها علاقة أطول أو أكثر حميمية مع البطاطس من أيرلندا . فقد كان الأيرلنديون أول الأوربيين الذي تقبلوها محصولا حقليا فى القرن السابع عشر ، وكان الأيرلنديون أيضا الذين اتخذوها قوتا رئيسيا فى القرن الثامن عشر» . وقد اكتشف المهندس الزراعي دوهامل دو مونسو ، الذى كتب فى ستينيات القرن السابع عشر ، أن الاستهلاك الإنجليزي من البطاطس «مدهش» ، ولكن حماستهم كانت فاترة بالمقارنة مع الأيرلنديين ، « الذين هم مغرمون للغاية بالبطاطس ، لدرجة أنهم لا يدخرون وسعا لحيازة كميات كبيرة منها». وقد أتاح أسلوبهم الكسول فى الزراعة للأسرة المكونة من ستة أفراد أن يعيشوا على نتاج هكتار واحد فقط من الأرض . وعندما كان «إدوارد ويكفيلد» مسافرا فى أنحاء أيرلندا بين سنة 1809 وسنة 1811م ، حسب أن كل عضو فى مثل هذه العائلة كان يستهلك فى المتوسط خمسة أرطال ونصف (اثنين كيلوجرام ونصف) من البطاطس يوميا .وكان سادتهم البريطانيون لديهم تحفظات أكبر ولكنهم أيضا أذعنوا فى نهاية هذه الفترة. فى سنة 1818م كتب وليم كوبرت ، الذى اعتبر البطاطس بمثابة علامة العبودية (هذه الجذور الشريرة … هذه الجذور من الشر) فى غضب : « إنها الموضة أن يمجدوا البطاطس وأن يأكلوا البطاطس . وينضم الجميع لتمجيد البطاطس ، والعالم كله يحب البطاطس، أو يتظاهر بأنه يحب البطاطس وهو الأمر نفسه فى الواقع « .
وفى القارة ، على الرغم من أن الأدلة متقطعة ، فإنها تشير بوضوح إلى ترحيب متصاعد بتجربتها . وكان يمكن أن توجد البطاطس فى أجزاء كثيرة من الفلاندرز ، وبرابنت ووستفاليا قبل سنة 1700م ، وفى فرانكونيا سنة 1715م ، وفى بادنبورج فى عشرينيات القرن الثامن عشر، وفى وادى الموسيل فى إمارة تريير فى ثلاثينيات القرن نفسه وهكذا . وفى إقليم كورمارك ببروسيا زاد إنتاج البطاطس من 5200 طن فى سنة 1765م إلى 19000 طن سنة 1779م وإلى 103000 طن فى سنة 1801م ، وفى ذلك الوقت كانت البطاطس تزرع باعتبارها محصولا حقليا . كان فشل محصول الحبوب فى أوائل سبعينيات القرن الثامن عشر قد أدى إلى حدوث دفعة قوية تجاه تحول الزراعة . كما تذكر عالم الزراعة الألماني «ألبريخت ثاير» (1752- 1828م) أنه :»لم يحدث حتى سنة 1771 وسنة 1772 م أن بدأت ممارسة زراعة البطاطس محصولا حقليا تجد من يؤيدها ، ولكن فى ذلك الوقت فشلت جميع محاصيل الحبوب، وقد أدت المجاعة التى نشبت إلى اكتشاف أن التغذية الكافية المناسبة ربما تستمد من هذه البطاطس نفسها التى كانت تعتبر حتى ذلك الحين رفاهية فقط ، كما اعتبرت أيضا من الخبز» .